الفرق بين القضاء والقدر والمكتوب:
القضاء والقدر والمكتوب هي مفاهيم دينية وفلسفية ذات صلة وثيقة بمفهوم الإرادة الإلهية في الإسلام والمعتقدات الدينية الأخرى. ورغم ارتباط هذه المفاهيم ببعضها البعض في السياق العام، إلا أن كل واحد منها يحمل معنى مختلفًا، وله دور خاص في تفسير كيفية حدوث الأحداث في الكون، ومدى تأثير الإنسان في صنع مصيره. في هذا المقال، سنستعرض الفروق الدقيقة بين هذه المفاهيم الثلاثة، مع شرح مستفيض لما تعنيه هذه المصطلحات وكيفية فهمها في ضوء النصوص الدينية والتأملات الفلسفية.
أولًا: القضاء
القضاء هو الحكم أو القرار الإلهي الذي يصدره الله تعالى بخصوص ما يحدث في الكون. بمعنى آخر، القضاء يتعلق بالتحديد الإلهي للمسائل التي تمثل حتمية تامة في الحياة. لا يتغير القضاء ولا يتأثر بأي قوة بشرية أو خارجية؛ لأنه صادر عن إرادة الله وحكمه المطلق. في الفكر الإسلامي، يُعتبر القضاء جزءًا من علم الله الأزلي، ويُفهم على أنه حكم ثابت لا يمكن تغييره.
القضاء في القرآن الكريم والسنة النبوية
في القرآن الكريم، يرد لفظ “القضاء” في عدة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأحزاب: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ” (الأحزاب: 36). وهذه الآية تؤكد على أن ما يقرره الله هو حكم حتمي لا يُناقش ولا يُعارض.
أيضًا، في الحديث الشريف، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر في أكثر من مناسبة أن “القضاء قد جرى بما يريده الله” وأنه لا يجوز للإنسان أن يتحدى إرادة الله أو يحاول تغيير ما هو مكتوب له، لأن القضاء يمثل واقعًا لا يمكن التراجع عنه أو تغييره.
القضاء والحتمية
الاختلاف الجوهري بين القضاء والمصير البشري يكمن في أن القضاء يتعامل مع الأحداث الكبرى في الكون، مثل حياة الإنسان، موت الإنسان، وقوع الحروب، أو انتشار الأوبئة. هذه الأمور هي ما نطلق عليها “الحتميات” لأنها تنبع من مشيئة الله المطلقة، ولا يمكن أن يفر منها البشر. لكن مع ذلك، القضاء لا يُنكر وجود السبب والنتيجة؛ ففي الإسلام، يُشدد على أهمية الأخذ بالأسباب، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل”.
ثانيًا: القدر
القدر هو مصطلح آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضاء ولكنه يختلف عنه في مفهومه وتطبيقه. القدر يعني تقدير الله تعالى للأحداث والمواقف قبل وقوعها. هو الإرادة الإلهية التي تقرر للإنسان مصيره، ولكنها تتسم بمقدار من العمومية والمرونة مقارنة بالقضاء. يمكننا أن نعتبر القدر هو “الخطة الإلهية” التي أعدها الله للمخلوقات وفقًا للمعرفة الإلهية المسبقة، وهي تشكل ما سيحدث في المستقبل بناءً على تلك الخطة.
القدر في القرآن الكريم والسنة النبوية
القدر يظهر بوضوح في العديد من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49). هذه الآية تبيّن أن كل شيء في الكون، من جريان الأنهار إلى حياة البشر وحركاتهم اليومية، هو مقدر سلفًا وفقًا لعلم الله وإرادته.
من الجدير بالذكر أن القدر يشمل جميع أفعال الإنسان وعواقبها، ولكنه في الوقت نفسه يتسم بالعلاقة مع مشيئة الله وحكمته. وفي السنة النبوية، نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكد على أهمية الإيمان بالقدر في حديثه الشهير: “آمنت بالله، وبما جاء من الله، وبما جاء عن رسول الله، وبالقدر خيره وشره”.
القدر والاختيار البشري
إذا كان القدر يعبر عن ما تم تقديره من الله للإنسان، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الإنسان فاقد القدرة على الاختيار. فالإسلام يؤمن بأن الإنسان يمتلك إرادة حرة في اتخاذ القرارات. لكن هذه القرارات تأتي ضمن إطار القدر الإلهي، حيث أن الله يعلم مسبقًا ما سيفعله الإنسان، لكن هذا لا يعني أن الإنسان مجبر على اتخاذ مسار معين.
على الرغم من أن القدر قد يُنظر إليه كخطة إلهية، فإن الإسلام يذكر دائمًا أن الإنسان قادر على اتخاذ قراراته بناءً على اختياره الشخصي، وأنه مسؤول عن أفعاله أمام الله.
ثالثًا: المكتوب
المكتوب هو ما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ قبل خلق الإنسان والعالم. يعتقد المسلمون أن اللوح المحفوظ يحتوي على كل شيء سيكون في هذا الكون منذ البداية وحتى النهاية. كل فعل، كل حادثة، وكل مصير مكتوب فيه مسبقًا، وأن الله يطلع على هذا المكتوب بشكل دائم.
المكتوب في القرآن الكريم والسنة النبوية
في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَنْ نَفْرَأَها” (الحديد: 22). هذه الآية تُظهر أن كل ما يصيب الإنسان من مصائب أو مكاسب مكتوب في اللوح المحفوظ، وأن ذلك هو جزء من المشيئة الإلهية.
أما في الحديث النبوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أول ما خلقَ اللهُ القلمَ، فقال: اكتبْ، فجرَتْ الملائكةُ بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ”. هذا الحديث يدل على أن كل شيء في هذا الكون قد تم تدوينه مسبقًا في اللوح المحفوظ.
المكتوب ومرونة الإنسان
إن مفهوم المكتوب يعني أن هناك خطًا عامًا تم تحديده مسبقًا لحياة الإنسان. لكن هذا المكتوب لا يعني أن الإنسان مجبر على السير فيه بشكل ميكانيكي. بل إن المكتوب يتضمن التفاصيل الخاصة بالحياة التي ستحدث، لكنه أيضًا يتيح للإنسان العمل وفقًا لإرادته. بمعنى آخر، الشخص هو الذي يقرر بشكل محدد من خلال اختياراته، ولكن في النهاية، ما يحدث له هو نتيجة لحكمة الله تعالى كما تم تحديده في اللوح المحفوظ.
التفاعل بين القضاء، القدر، والمكتوب
الفهم الصحيح للعلاقة بين القضاء والقدر والمكتوب يمكن أن يكون معقدًا، ولكن يمكن تصور هذه المفاهيم على النحو التالي:
-
القضاء هو ما يحكم به الله على كل شيء، وهو القرار النهائي بشأن ما سيحدث.
-
القدر هو تقدير الله لما سيحدث وفقًا لإرادته، وهو ما قد يحدث في المستقبل.
-
المكتوب هو ما كُتب في اللوح المحفوظ قبل أن يحدث شيء.
يمكن القول إن القضاء هو حكم الله النهائي، بينما القدر يمثل “الخطة” التي تم تحديدها مسبقًا، والمكتوب هو ما تم تدوينه بشكل دائم في اللوح المحفوظ.
الخلاصة
القضاء والقدر والمكتوب هي مفاهيم مترابطة، لكنها تحمل معانٍ مختلفة. القضاء هو حكم الله النهائي الذي لا يمكن تغييره، بينما القدر هو تقدير الله لما سيحدث وفقًا لمشيئته، والمكتوب هو ما كتب في اللوح المحفوظ من أحداث ستحدث في المستقبل. ورغم أن هذه المفاهيم تتعلق بإرادة الله، إلا أن الإنسان يظل مسؤولًا عن اختياراته وأفعاله، ويجب عليه أن يسعى لتغيير واقعه بالأخذ بالأسباب، مع الإيمان العميق بقدرة الله على توجيه الحياة حسب مشيئته الحكيمة.
